احتفالًا باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، يتجاوب الوطن بفخر واعتزاز برؤية ٢٠٣٠ الطموحة، ونسعى أن نكون جزءًا مبادرًا في تحقيق التقدم والتطور في جميع المجالات. ومن بين تلك المجالات التي شهدت تحولًا هائلاً على مر السنوات هو قطاع العقارات والأسواق، وقطاع التجزئة، وارتباطهما الوثيق مر بتطورات حافلة، ويمتد عبق التاريخ والموروث الثقافي إلى الآن والآتي.
بين الرؤى العصرية والحداثة نجد حضور الماضي، بل وحتى نستشعره روحيًا ومعنويًا. فإن الأسواق القديمة ما زالت تحتفظ بجاذبيتها لدى الناس، ممن يجدون بين أزقتها روح الثقافة والتاريخ الأصيل.
وكانت تتمتع بعض الأسواق بقوة مؤثرة ومعاني عميقة، حتى أن سميت بعض المدن والقرى على أسواق قديمة كانت معروفة قديمًا، مثل سبت العلايا والتي سميت “سبت” نسبة إلى السوق الكبير الذي كان ينعقد بجانب القرية في يوم السبت من كل أسبوع، والعلاية نسبة إلى بنائها على تل مرتفع؛ وأحد المسارحة الذي يمثل الملتقى الاسبوعي لقبائل المسارحة في يوم واحد من أيام الأسبوع هو يوم الأحد.
يعرف قديمًا انقسام الأسواق إلى نوعين، الأسواق اليومية والأسبوعية، وهي الي تفتتح أبوابها في مواسم ومناسبات محددة. وامتدت أنواع الأسواق من المكشوفة إلى المغطاة. كانت محافظة جدة من أول المناطق التي تظهر فيها الأسواق المكيّفة والمنيرة، مثل سوق قابل وهو سوق تجاري حي يقع في البلد، والذي يعتبر مولدًا لأشهر تجار الحجاز. دام وما زال حتى اليوم يستلهم السائحين وسكان البلد. سّمي بسوق قابل نسبة لشارع قابل، الذي أسسه الشريف حسين بن علي، حتى أن آلت ملكيته إلى سليمان أمان قابل.
يتميز سوق قابل بموقعه في حي البلد، منطقة الصحيفة وهي منطقة حيوية ومتفرعة. ويزدهر السوق حتى الآن بامتزاجه لثقافتي الماضي والحاضر، وبتجدده المستمر، ويعتبر واحدًا من أبرز المعالم في جدة. يضم السوق العديد من محلات الأقمشة والعبايات، بالإضافة إلى محلات العطور والاكسسوارات والأحذية والمجوهرات، كما يتواجد فيه بعض المطاعم والمقاهي الشعبية القديمة.
وبالحديث عن الأسواق الشهيرة قديمًا، التي فيها يجد المرء عملاً يرويه ويمليه بلقمة العيش، ومجلسًا يسليه، وصاحبًا يلْهيّه، والتي حوّلت الـ”حمّال” و”بيّاع” و”صبي” إلى كبار رجال الأعمال اليوم، حيث نسجوا بداياتهم من داخل هذه الأسواق.
لا يخلو الذكر إلا بأكثرهم عرفًا وشهرة: سوق عكاظ والذي عُرف من الجاهلية وإلى أن ظهر الإسلام، وهو أحد الأسواق الثلاثة الكبرى في الجاهلية، بالإضافة إلى سوق مجنة، وسوق ذي المجاز، وتذكر الروايات أن سبب تسميته بعكاظ؛ لأن العرب كانت تجتمع فيه فيتعاكظون؛ أي يتناشدون ويلقون القصائد والمعارك الشعرية. ويقول الليث بن المظفر الكناني – أحد أهم علماء اللغة العربية – أن تحمل عكاظ معانٍ عديدة: الحبس والعرك والعراك والقهر والمفاخرة والدَّعك والدَّلك والمجادلة والمطل والاجتماع والازدحام والتمنع.
على الرغم من أن البضائع الأدبية هي مصدر شهرة سوق عكاظ، إلا أن البضائع المادية احتلت مكانة مقاربة في السوق، حيث تضمن السوق البضائع البيعيّة كالتمر والسمن والعسل، والخمر والملابس والإبل.
ينتقل حديثنا إلى سوق القيصرية في الأحساء، هو سوق عريق يعود لأكثر من ستة قرون. كان يعد مصدرًا رئيسيًا للعديد من الصناعات والسلع القديمة مثل السيوف والخناجر والحُليّ والأواني، بالإضافة إلى عددٍ من الأعشاب والأدوية والملابس المصنوعة يدويًا، وغيرها مما أهتم له الشعوب العثمانية القديمة. وفي عهد الملك عبد العزيز، تحولت الدكاكين إلى شكلها الحالي وأصبحت جزءًا من محافظة الأحساء. يعتبر سوق القيصرية وجهة ذات اعتبار لسكان المنطقة، ويتمتع بشعبية ومكانة كبيرة.
وفي رواياتنا عن الأسواق لا نغفل عن دور المرأة السعودية في التنمية الاقتصادية وأحياء الموروث الثقافي، ويتجسد ذلك من خلال التجارة، وبالتحديد ما يعرف بـ”أسواق الحريم”، فتجد النساء بين اصطفاف الدكاكين والبسطات على جوانب السوق يبعن فيها الحناء والأقمشة، والأوراق العطرية، والمجوهرات، والمنتجات اليدوية العديدة.
في الماضي، كانت الأسواق تقتصر على البسطات المحلية المتواضعة والدكاكين الصغيرة، والمعاملات التجارية تتم وجهًا لوجه بين التجار والزبائن. بمرور الوقت ومع تطور أساليب الحياة وتقدم التقنية، وحتى تغير بعض المعتقدات الثقافية؛ فمثلًا لم يكن من اللباقة أن يأكل الناس بين العامة، أو في الأماكن المفتوحة، تلك العوامل أثرت على تجارب التسوق الحديثة، بدأت الشركات تتبنى نهجًا جديدًا في بناء الأسواق حيث تم توفير مساحات التجزئة، فكل متجر له غرفة منفصلة عن الأخرى، وتعددت التجارب داخل الأسواق وأصبحت تلك المجمعات أكثر شمولًا لاحتياجات المستهلك الحديث، حيث تضم مجموعة واسعة من المتاجر والمطاعم والمرافق الترفيهية، وكل ذلك تحت سقف واحد وفي مبانٍ مكيفة ومنيرة.
كل تلك الأسواق الشعبية وغيرها قد مهدت الطريق لما نسميّه الآن بالمجمعات التجارية أو “المولات”. في عام ١٤٠٠ افتتح مجمع أسواق الجوهر، والذي تعددت محلاته وأقسامه من دراجات علامة “هوندا” التي تظهر سريعًا وتباع سريًعا رغم غلاء أسعارها، بالإضافة إلى متاجر الملابس والأحذية التي كانت دارجة في زمنها، والـ”بقالات” التي تبيع المأكولات والمشروبات.
أيضًا في عام ١٤٠٠ افتتحت أول فروع العثيم مول في الرياض، والذي أثر بشكل كبير على تطور قطاع التجارة والتجزئة في البلاد. منذ افتتاح العثيم مول، توالت المجمعات التجارية الأخرى في مختلف مناطق المملكة، وأصبحت مراكز التسوق مكونًا أساسيًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في السعودية.
وإلى اليوم يتجلى تأثير أسلوب الحياة على القطاعات العقارية والتجارية، فالمستهلكون يتطلعون إلى الأماكن التي تعكس حتى مبادئهم واختياراتهم الحياتية، فنرى ظهور توجهات جديدة في الأسواق والمجمعات التجارية، كالتي تهتم بالبيئة وتعمل باستدامة، والتي تبتكر كما يبتكر الذهن التكنولوجي الحديث.
لا تزال الكثير من تلك الأسواق الشعبية تحتفظ بحضورها في مدن المملكة العربية السعودية، لدى العاشقين للبساطة، والمحبين للماضي وما يمليه من تراث وأصالة. تبقى تلك الأسواق ملتقى اجتماعيًا واقتصاديًا للناس، فرائحة الشعر والقصيد إلى الآن تزيّن تفاصيلها، ولا زالت تصدى في أزقتها.
ورغم اختلاف الأسواق الشعبية عن الأسواق المستحدثة، فما زالت المجمعات التجارية تحمل نفس الأهمية في حياتنا، بل يمكن القول أنها أصبحت الآن من ضمن أسلوب الحياة للسعوديين. محط التركيز الأكبر في الأسواق قديمًا كان البيع والشراء، أما اليوم، فالأسواق والمجمعات تؤدي غرضًا أوسع من التسوّق، وأكثرها نجاحًا وشهرة هي متنوعة التجارب، وأصبحت وجهات متكاملة تتضمن المطاعم، والمقاهي، والمساحات الترفيهية، وكل ما يغذي أسلوب الحياة.
ومع استمرار التقدم و بفضل رؤية ٢٠٣٠ الطموحة فقد شهدت المملكة زخمًا متزايدًا في مجالات عديدة، منها مجال العقار التجاري، والذي من خلاله امتدت الفرص لباقي المجالات وحتى للأفراد الموهوبين والطموحين. استنادًا على نجاحات تلك المجمعات ووضوح أهميتها وتأثيرها في أسلوب الحياة لدى السكان وحتى جاذبيتها للسياح، يمكننا واثقون أن نتوقع مستقبلًا واعدًا للمجمعات التجارية في المملكة العربية السعودية، وستستمر الشركات العقارية ورواد الإبداع في تقديم تجارب مبتكرة وشاملة لكافة احتياجات المستهلكين بأكثر فعالية وراحة وإبداعًا.